بقلم: أحمد الغانم

تم تقديم هذه الورقة في أمسية بأسرة الأدباء والكتاب البحرينية مساء الأحد ٤ حزيران/ يونيو٢٠٢٣.
أولاً، شكر لا بد منه لأسرة الأدباء والكتاب لهذه المبادرة على استضافة هذه الفعالية التي تهتم بالحركة الغنائية والموسيقية، كما إنها تحيي أمرا كاد أن يندثر، حيث كان أمراً معتاداً وطبيعياً قبل عشرين سنة وعقد ندوات موسيقية تتناول بالنقد تجارب فنية ظهرت على الساحة.
الجدير بالذكر أن موضوع النقد الموسيقي (على الأقل) كاد يكون معدوماً الآن وقد يرجع ذلك لأسباب عدة بدأت بعدم اهتمام الصحف المحلية بصفحاتها الثقافية لاستقطاب الكتّاب والناقدين الفنيين وتركت الأمر لرغبة الناقد فإن أراد أن يكتب فسيكون بشكل تطوعي وهو أمر جعل الكثير يبتعد عن الكتابة وذلك للشعور بعدم التقدير، ومن بعدها سيطرت النسخ الرقمية على عالم النسخ الورقية وصار التركيز على مواد ذات محتويات أخرى غير الكتابة مثل مقاطع فيديو الصوت المدعم بالصور.
هنا بدأت مبادرات شخصية من البعض لتناول بعض الظواهر الفنية أو التجارب في وسائل التواصل المختلفة كاليوتيوب والفيسبوك والانستغرام، إلا أن أثر ذلك لم يكن فعالاً وقوبل بعدم الاهتمام وأحياناً بالنظر لهذا النقد باعتباره تهجمًا على التجربة المتناولة.
يرجع هذا في تصوري لعدم وعي الكثير لمفهوم النقد. كتبت يوماً بحثاً بعنوان "من يكتب في الموسيقى؟" شاركت به في إحدى دورات مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية بالقاهرة، أشرت فيه لرؤيتي المرتبطة بمفهوم النقد. والذي أراه، أن النقد الفني يتناول التجربة الفنية من جميع جوانبها وظروف إنتاجها وعرضها وتحليلها بشكل علمي ذاكراً السلبيات والإيجابيات على حد السواء والابتعاد عن المجاملات والعاطفة الشخصية التي تربط الناقد بالمؤلف أو صاحب العمل.
كما يمثل النقد الفني عنصرًا مساعدًا لدعم العمل الفني وأيضاً توجيه الفنان لتحسين تجربته الفنية مستقبلاً، وفي نهاية المحصلة فهو أحد أهم ركائز إثراء الساحة الفنية.
أود أن أشير هنا للدعوة التي تلقيتها من قبل الفنان إبراهيم راشد الدوسري للقيام بدور الناقد، وأنا وإن شكرته على ثقته هذه فأود أن أثني على شجاعته في تقبل ما قد أثيره من نقد لهذه التجربة.

الفنان إبراهيم الدوسري

كلمة حق في الفنان إبراهيم الدوسري
تعود معرفتي بالأستاذ إبراهيم إلى سنوات ومراحل، عرفته أولاً في منتصف ثمانينيات القرن العشرين (عندما كنت طفلاً) كمغنٍ رأيته على شاشة التلفزيون ولا زالت كلمات إحدى أغنياته عالقة في ذهني إن لم تخني الذاكرة وهي (يا سعف خل النخل يبكي على الديرة). كان صوته الجهوري يلفت انتباهي بشكل كبير.
في مرحلة لاحقة ولربما في بداية تسعينيات القرن العشرين، وكنت حينها في سنواتي الدراسية الأولى في معهد الكونسيرفاتوار. وخلال تواجدي في الإجازة الصيفية كنت أسعد بزيارة مقر جمعية البحرين للموسيقى والفنون الشعبية (في العدلية)، وكانت هذه أول معرفة شخصية به ومن هنا عرفت ما يحمله من هم لأجل إثراء الساحة الفنية وتشجيع الموسيقيين البحرينيين بعيدًا عن المصلحة الشخصية، وهي رسالة سامية لم أجدها إلا لدى القليل.
كثيراً ما نسمع مقولة "أشعل شمعة بدل لعن الظلام". هذا الإنسان أجده نموذجًا حيًّا في تطبيق هذه المقولة بكل ما تحمله من معنى، فبرغم كل المعوقات وقلة الموارد المتاحة لم أجده يوماً متذمراً ولكنه دائماً يفاجئك بإصدار عمل جديد.
هناك جوانب يعلمها الكثير عنه كونه باحثًا، قاصًا، مخرج أفلام وثائقيّة وروائيّة وملحنًا ومغنيًّا ولكن هل شاهده أحد يقوم بالتمثيل؟ شاهدته يوماً في كليب غنائي يحاكي جلسة طرب للفنان محمد بن فارس.
إصداراته الفنية الأدبية متعددة وبجهود أقرب ما تكون شخصية وحدها كفلية بتميزه، إذن فنحن أمام قامة فنية ورائد مخضرم من رواد الموسيقى والغناء في البحرين والخليج الذي جمع بين الفن والمعرفة والثقافة في آن.

تحليل الأغنية
عنوانها: "وطن الجميع"
تصنيفها: أغنية وطنية
شعر: د. راشد نجم
تلحين وغناء: إبراهيم راشد الدوسري
توزيع: حسن سيروس
المقام المستخدم: حجاز عجمي (تبعاً لأبعاده). يبدأ مقام الحجاز عادة من درجة ري (الدوكاه) ولكنه هنا مصور على درجة صول (اليكاه). وفي العادة يكون مقام الحجاز الذي يبدأ من درجة (اليكاه)، وهي صول أسفل دو الوسطى، ويسمى (شد عربان) مع اختلاف في الدرجة السابعة، التي تكون في مقام الحجاز العجمي طبيعية، أما في مقام شد عربان حيث يلتزم بأبعاد مقام الشهناز فتكون الدرجة السابعة مرفوعة. وبهذا نستطيع القول بإنه مقام حجاز عجمي مصور على درجة اليكاه.
هذا المقام شرقي بامتياز يظهر به سحر الشرق وجماله، والحانه مسموعة كثيراً في ألحان (الحداء) والأذان ومرتلي القرآن أيضاً، كما أن هناك الكثير من الأغاني المعروفة عربياً في هذا المقام منها: أغنية (الحلوة دي) لسيد درويش و(يا حنة يا قطر الندى) و(فوق النخل) لناظم الغزالي و( قدك المياس) لصباح فخري.
ويمتاز هذا المقام بالرغم من كونه عربياً بعدم احتوائه على ثلاثة أرباع النغمة - في غالبية أنواعه- لذلك فإن بالإمكان عزفه على الآلات الغربية، وهذا ما جعله مادة خصبة لدى المؤلفين الموسيقيين في الغرب من مختلف العصور لاستخدامه. وفي هذا الزمن يلجأ إليه مؤلفو الموسيقى التصويرية لإظهار الجو العربي أو الشرقي في بعض المشاهد؛ ولربما أكثر الأعمال شهرة موسيقى فيلم الرسالة للمخرج السوري الراحل مصطفى العقاد، وكانت الموسيقى من تأليف الفرنسي موريس جار"Maurice Jarre".
الإيقاع الأساسي: رومبا خليجي ومُطعَم بإيقاع باسانوفا

أقسام العمل:
مقدمة: صولو عود، يتضمن استعراض للمقام والمسار اللحني للثيمة الأساسية للفاصل الموسيقي في الأغنية.
كوبليه غنائي 1 (أ): يبدأ الغناء مباشرة منطلقاً من درجة الركوز صول، بشكل حر دون التزام زمني حيث يغنى بشكل منفرد مع مصاحبة هارمونية في الخلف مع لزمة بآلة البيانو أولاً ثم تعقبها آلة التشيللو في العبارة بالشطرين الآتيين:
نختلف في الحب نرفض أو نطيع ..
نختلف في الراي ذي طبع الجميع ..
ومع الإعادة يبدأ دخول إيقاع "الرومبا" الخليجي ويبدأ الالتزام بالوقع الزمني الدقيق، وهنا تواصل آلة التشيللو أداء اللزمة بشكل متواصل.
واللزمة: مجموعة نغمات تؤدى مع نهاية "ثيمة" لحنية أساسية لغرض جمالي أو التهيئة للثيمة القادمة.
ومع نهاية الشطر الثاني تدخل الوتريات باللزمة بكل وضوح آذنة بالبدء الفعلي لكل الآلات في الأغنية. ويبدأ غناء الشطر الثاني مع هذا الاكتمال "الوطن كلنا قلب واحد وديع"، مع استمرار أداء التشيللو للزمة.
إن لدخول الآلات التدريجي جانبًا جماليًّا يخدم روح الجماعة المقصود في كلمة (كلنا).
مذهب موسيقي (ب): يتكون من ثلاث جمل لحنية وفيه تتحاور مجموعة الوتريات مع آلة التشيللو.
والجملة الأولى تبدأ من الدرجة السابعة للمقام (فا) لتستقر على الدرجة الأولى (تعاد مرتين).
الجملة الثانية: سُلَّمية هابطة من الدرجة الأولى ثم سلم أخر هابط من الدرجة السابعة ليستقر على الدرجة الأولى (الركوز).
الجملة الثالثة تنويع للجملة الأولى وفي التكرار يعتمد على جمالية الـ ـ"سنكوب" أو ما يعرف بتأخير النبض وهو يعطي إحساسا بالتشويق للتمهيد للكوبليه التالي.
الكوبليه الثاني (ج) وفيه الكلمات:
الوطن إحساس علمنا الأمان
مثل صدر الأم بحضانة الحنان
لو نغيب سنين ونضيع في الزمان
نرجع إنلاقيه هو بيت الجميع.
الشيء المتوقع والاعتيادي هو استخدام نفس الجمل الموسيقية في الكوبليه الأول (أ) في تلحين هذه الكلمات ولكن الأمر ظهر مختلفًا هنا.
تم تغيير انطلاقة اللحن ليبدأ من الدرجة السابعة في الشطر الأول وعند تكرار الشطر، نجد اللحن أيضاً مختلفًا من درجة أعلى بها تجلي وسلطنة كما يقال.

الشطران التاليان:
لو نغيب سنين و نغيب في الزمان
نرجع نلاقيه هو بيت الجميع
يستخدم نفس لحن الشطر الثاني في الكوبليه الأول (أ).
من الجوانب الجمالية هنا هو التفاعلية بين جمل المذهب الموسيقي والجملة الأولى في هذا الكوبليه وهو ما يخلق ربطًا منطقيًا لأجزاء الأغنية.
المذهب الموسيقي (ب): يعاد كما هو.
الكوبليه الغنائي الثالث (د)، وبه الكلمات:
كل وضع فات علمنا الكثير
نقوى بالعثرات ونصمد بالمسير.
تبدأ الجملة اللحنية من درجة الركوز صول ولكنها مختلفة عن سابقتيها، والشطر الثاني يستخدم نفس جملة التجلي في الكوبليه السابق.

أما الشطران:
يا حلم نلقاك فيه باجر كبير
الوطن حبنا و بدونه نضيع
فيستخدم نفس الجملة في الشطرين في الكوبليهين السابقين.
فاصل لحني: مع نهاية الكوبليه الثالث الأمر المتوقع هو سماع المذهب الموسيقي (ب)، ولكن فجأة تدخل الوتريات بلزمة موسيقية سلمية هابطة مع توقف الإيقاع مع قفلة على الدرجة الرابعة وتسمى هذه القفلة بقفلة مخادعة تبعث على حس الدهشة والاستفهام.
ثم، مباشرة دخول الكوبليه الأول بصورته مع كامل الآلات.
إن استخدام هذا الفاصل اللحني القصير بدلاً من المذهب الموسيقي أضاف لمسة جمالية، لشد انتباه المستمع لما قد يأتي بعدها وأيضاً ابتعد عن جو الرتابة التي قد تحصل مع استخدام المذهب الموسيقي.
الكوبليه الأول (أ): تعاد الكلمات كما هي في بداية الأغنية وذلك للتأكيد على أهمية معاني الكلمات وكأنها تذكير للرسالة التي تأتي بها الأغنية.
صيغة الأغنية: صيغة دائرية أو كما يسمى في عالم الموسيقى الكلاسيكية (Rondo). مع استثناء المقدمة الصولو.
قد تبدو بنظرة سريعة كأنها ذات صيغة ثنائية (أ – ب – أ – ب - أ) و لكنها مع التغيرات الطفيفة في الكوبليهات نتج عنها صيغة روندو.

الآلات
صوت المغني: يتميز صوت الفنان إبراهيم راشد الدوسري بطبقة صوت رجالية منخفضة - باص (Bass). وقد استطاع أن يتحرك في هذه المنطقة بسلاسة جعلته يؤدي الألحان بلا تكلف، كما ظهر في الأغنية.
صولو العود (أداء الفنان إبراهيم نفسه): جاء استخدامه ليشكل لمسة كلاسيكية جميلة تستعرض المقام المستخدم، على اعتبار أنه لم يوظف في أداء جمل لحنية أو لزم داخل الأغنية. (في تصورنا، لو حصل ذلك لخلق جوًا من الترابط عزز وجود هذه الآلة في الأغنية).
التشيللو: آلة محورية في هذا العمل، تم توظيفها بشكل جميل طوال الأغنية. وكان اختيارها موفقاً لمحاكاتها طبقة صوت الفنان إبراهيم.
مجموعة الوتريات: تم توظيفها بشكل كلاسيكي كما في الأغاني لأداء ألحان المذهب تارة واللزم في أماكن بشكل استثنائي، كما في الكوبليه الأول والفاصل الموسيقي قبل إعادة الكوبليه الأول في نهاية الأغنية.
الآلات الإيقاعية: في بداية الأغنية تم استخدام صوت العصي الخاصة بآلة الدرامز في إيحاء لدعوة الفرقة إلى التركيز إيذانًا ببدء الأغنية. وقد يكون استخدام هذا المؤثر الصوتي جميلًا ولكن وجوده ليس بمبررٍ كافٍ.
آلالات المصاحبة - البيانو والغيتار.
تجدر الإشارة إلى أن أصوات الآلات المستخدمة ليست من عازفين حقيقيين إنما هي من مكتبة صوتية احترافية.
لقد استطاع الموزع تنفيذ العمل بمهارة عالية، وكأن الصوت صادر بالفعل من فرقة موسيقية حقيقية.
الكورس: بالرغم من إن كلمات الأغنية تتحدث بضمير الجماعة، إلا أن الملحن لم يستثمر ذلك إذ لم يضف صوت كورس لتعزيز إبراز هذا المعنى.
وسؤال يطرح نفسه هنا بقوة: هل استخدام المكتبات الصوتية بديلاً من الفرق وعازفيها الحقيقيين يعتبر عيبًا؟ ربما ينظر البعض لاستخدام المكتبات الصوتية بأنواعها بدلاً من العازفين الحقيقيين بنظرة سلبية، ولكن لو نظرنا لمبررات اللجوء إلى هذا الأمر سنجد أن لا حرج أبداً في ذلك. وتوجد عدة أسباب تقف وراء لجوء بعض الفنانين إلى هذه الطريقة؛ واحدة منها قلة الموارد المتوفرة لإنتاج أعمال غنائية أو معزوفات، والكل يعلم إنه من الصعب في الوقت الحالي الحصول على شركة إنتاج أو جهة تدعم ذلك، وهو ما يعني أن يبقى إبداع الفنان حبيس الأدراج، وهو الأمر الذي يقودنا لمبدأ "إنارة شمعة بدل لعن الظلام" الذي ينتهجه الفنان إبراهيم.

كلمة في حق القصيدة
بعض القصائد أشبه بالدانات، جميلة ورائعة ذات معاني كبيرة ولكنها مختفية بين أوراق الدفاتر والكتب، حتى يأتيها ملحن لينتقيها كما يفعل الغواص بانتشال محارة ليحصد ما بداخلها من كنز مكنون.
إن ما قام به الفنان إبراهيم هو التقاط هذه القصيدة وإبرازها بالشكل الذي يليق بها بما تحمله من معاني ومفردات عميقة وصادقة.

كلمة أخيرة هذه أغنية وطنية متكاملة الأركان من حيث الكلمة واللحن والتوزيع والأداء والتصوير والإخراج، استطاع فريق العمل إبرازها بما توفّر لها من موارد وقدرات، كان من المفترض أن تحظى بدعم يليق بها لإبرازها بشكل أفضل.

https://www.youtube.com/watch?v=vRp8NTB33QU&feature=youtu.be