بقلم سوار عبد ربه
قدم المؤلف الموسيقي والباحث الفلسطيني عيسى بولص، محاضرة بعنوان "الأغنية الفلسطينية ومجريات تطورها وانحسارها منذ الحرب العالمية الأولى حتى أوسلو"، عَرَضَ فيها بحثا يسلط الضوء على التطور التاريخي للموسيقى والمؤدين والملحنين والفرق الموسيقية في فلسطين، متوقفاً عند الطرق العديدة التي صاغها الموسيقيون ونشروا من خلالها علامات هوية فلسطينية مميزة طوال القرن العشرين، ومتتبعاً كيف تم التعبير عن هذه الهوية تاريخياً عبر سياقات محلية ووطنية وإقليمية، ذلك باستخدام الموسيقى كعدسة لفهم التاريخ والتجربة الفلسطينية بشكل أفضل، وكذلك إبراز أهمية الموسيقى في المساهمة في حل الأسئلة المركزية للهوية الفلسطينية.
عيسى بولص
ما قبل عام 1948
يقول بولص، إن المصادر تكشف عن مشهد موسيقي تواجد في السياقات الريفية والحضرية حيث كانت الأغاني تشكل جانبا مهما من الحياة الاجتماعية وتعتبر أداة قوية للتواصل، إذ أن الزجالين كانوا يوظَّفون لأداء حفلات الزفاف وغيرها من المناسبات الدورية وكانوا يجلبون الأخبار إلى القرى والبلدات ويناقشون القضايا الآنية، وقد تضمنت هذه الأنشطة ارتجالات شعرية ولحنية باللهجة العامية العتابا والمعنى والميجنا والشروقي، أو الأنواع الموقعة الفرعون والدلعونا والمربع وظريف الطول والقرادي، وكان يرافقها في الغالب أنواع مختلفة من الرقص.
وبحسب بولص، بدأت التسجيلات في فلسطين تظهر من العقد الأول للقرن العشرين في الإطار المشرقي العام للصناعة الموسيقية، وتشير المصادر إلى وجود صناعة موسيقية لبعض الموسيقيين والمغنيين الذين عملوا في فلسطين ومنهم أحمد الشيخ. وكانت هذه الصناعة ملازمة لتلك التي ظهرت في مصر.
عرض لروّاد النهضة الموسيقية الفلسطينيّة قبل النكبة
أما على المستوى الشعبي فقد استمر الفلسطينيون في التعبير من خلال الأغنية عن مفاهيم تتعلق بمحيطهم الآني بكافة تعقيداته وفقا لبولص، وفي أواخر العشرينيات بدأت تظهر الأغنية السياسية ذات معان موسيقية أبعد من تلك التي كانت متداولة في سياق الأغاني الشعبية، كأغاني نوح إبراهيم، ونمر ناصر، وكذلك القصيدة التي تبعت الأحرف الأبجدية التي نظمها عبد الرحمن البرغوثي في رثاء محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير قبيل إعدامهم عام 1930، (من سجن عكا طلعت جنازة).
وبهذه الفترة بدأت تظهر ممارسات موسيقية تعنى بالموسيقى الغربية من قبل أناس كانوا قد تدربوا على آلات غربية في ظل البعثات التبشيرية، كيوسف بتروني وسلفادور عرنيطة وأوغستين لاما.
عصر النهضة: انتشار إقليمي واسع النطاق
ويضيف بولص أن الموسيقى في عصر النهضة كانت مثيرة جداً، إذ ظهرت شركات تسجيل مثل "بيضا فون"، وحقق الموسيقيون الفلسطينيون في العقد الأول من القرن العشرين، انتشارا إقليميا واسع النطاق، تبعته تسجيلات في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين للعديد من الموسيقيين الفلسطينيين مثل: رجب الأكحل وثريا قدورة ونمر ناصر وإلياس عوض ونوح إبراهيم، وشملت هذه التسجيلات أنواعا عديدة من الأغاني منها: القصيدة والنشيد والموال والليالي، والأغاني الحضرية الخفيفة، والطقطوقة، والأغنية الشعبية الريفية الفلسطينية، والأدوار، والموشحات.
وكانت مواضيع هذه الأغاني عاطفية ووطنية وسياسية ودينية، أما الغناء فكان إما باللهجات العامية المحلية: بدوي، فلسطيني ريفي، فلسطيني مدني، أو باللغة الفصحى والبعض باللهجة المصرية والعراقية.
وبحسب بولص، تظهر التسجيلات أن العديد من هؤلاء المطربين كانوا يحظون باحترام كبير كرجب الأكحل وثريا قدورة وإلياس عوض، حيث تم الكشف عن قدراتهم العالية من حيث الأداء والتحويلات المقامية والمدى الصوتي والتزيين والزخرفة واللعلعة والتلحين الخ...، وهذا يدل على أن المجتمع الفلسطيني كان قادرا على إنتاج فنانين بارعين قويي الأداء وذوي قدرات متميزة خلال الربع الأول من القرن العشرين.
وعام 1936 أنشئت إذاعة هنا القدس، ثم إذاعة الشرق الأدنى (1941)، وخلال حقبة الأربعينات أراد صبري الشريف الذي كان يعمل مسؤولا عن قسم الموسيقى في إذاعة الشرق الأدنى أن يسخّر الأدوات المحلية وبحور الشعر العامي والنماذج المحلية الفولكلورية، واستخدامها في نسج معالم أغنية جديدة بعيدة عن الطرب المصري. وكان يهدف إلى تقصير الأغنية زمنيا والعمل على جعلها ذات معنى، وإحداث حراك بالموسيقى المحلية من خلال الاستفادة من الأدوات المتاحة في تقاليد الموسيقى الأوروبية ودمج العديد من تقنياتها بما في ذلك التناغم والقوالب والأوركسترا. ولتحقيق ذلك كلف شاعرا اسمه أسعد سعيد للقيام بالعمل الميداني وجمع الأغاني من فلسطين، ووظف موسيقيين مصريين لتنفيذ هذه الرؤيا (عبد الحليم نويرة ومدحت عاصم).
صبري الشريف
النكبة وخسارة المشهد الموسيقي
وفي أعقاب النكبة، خسر الفلسطينيون معظم المشهد الموسيقي والبنية التحتية ليس فقط في سياق المحطتين الإذاعيتين ولكن أيضا من حيث الأنشطة الموسيقية التقليدية، وفقا لبولص، إذ أصبح الموسيقيون الفلسطينيون منفصلين جغرافيا عن بعضهم البعض، في سوريا ولبنان والضفة الغربية وغزة والداخل المحتل والعراق ومصر والأردن، مع بقاء بعض موسيقيي إذاعة القدس في فلسطين الذين انتقلوا إلى رام الله، بينما انتقل العديد من موسيقيي إذاعة الشرق الأدنى مع المحطة إلى قبرص.
وفي أعقاب ذلك وظفت الإذاعات والمعاهد والجامعات العربية في لبنان وسوريا والعراق بعض الموسيقيين الفلسطينيين بسبب مواهبهم ومعرفتهم الموسيقية وقراءتهم للنوتة، وقدرتهم على التوزيع والتنغيم والتدريب والتعامل مع الكثير من أنواع الموسيقى في المنطقة والعالم، ومن هؤلاء: رياض البندك، سلفادور عرنيطة، حليم الرومي، يوسف بتروني، يحيى السعودي، روحي الخماش، محمد غازي والكثير من العازفين.
وتظهر واحدة من الخرائط، التي أرفقها بولص بمحاضرته أن جميع أنواع الموسيقى ومنها الأغاني الفلكلورية، والريفية، والموسيقى الآلية، والدينية، والموشحات، والقصيدة وغيرها خرجت من فلسطين عام 1948، حيث تشير الأسهم إلى مكان انتهاء كل نوع، فآنذاك كان لشخص فلسطيني أو أكثر دور في تأسيس الأنواع الموسيقية في هذه المناطق، ذلك لأن الفلسطيني في مكان تواجده حاول التكيف والتفاوض وأحيانا كان مضطرا أن يعبر تعبيرا غير سياسي عن الهموم اليومية التي يعيشها، وكان يتعرض للتهميش والاضطهاد والرقابة. ولم يكن حال الفلسطينيين واحداً في هذه المناطق، فكل منهم كانت لديه مصادر مختلفة فيما يخص حياته اليومية وكذلك الإنتاج.
صبري الشريف والرحابنة
نتيجة للنكبة عام 1948، توقفت رؤية صبري الشريف، وأخذ يبحث عن فرص لتنفيذ فكرته في إنشاء موسيقى جديدة في مكان آخر بالمشرق العربي، فسافر إلى بيروت عام 1950 للقاء الأخوين رحباني، ساعيا إلى تحقيق ما تصوره على أنه مستقبل الموسيقى الشرقية/العربية.
يقول بولص: "بين عامي 1952 و1956 وفي سياق إذاعة الشرق الأدنى، أنشأ صبري الشريف وحدة إنتاجية تتألف من استديوهات وأوركسترا ضمت أكثر من 40 موسيقيا معظمهم من الأجانب، وقام بتوفير عقود عمل لإنتاج أعمال الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وتوفيق سكر وغيرهم، كما وفر ما بعد 1956 سبل المونتاج والتوزيع لكل ما أنتجه الرحابنة حتى 1974".
الأخوان رحباني
وخلص الباحث بولص إلى أن الشريف كان له تأثير مباشر على القرارات الموسيقية التي تتعلق بالأغنية المشرقية في سياق الرحابنة.
وبحلول عام 1967 (حرب الأيام الستة) بات معظم الموسيقيين الفلسطينيين يعملون خارج فلسطين.
الاحتلال الإسرائيلي يضيق الخناق على الموسيقيين الفلسطينيين
لم يسمح للفلسطينيين في الضفة الغربية بالتعبير عن أنفسهم بحرية، ومن كان له رأي سياسي، تعرض للاضطهاد، أو السجن، أو التنكيل، أو الترحيل، إلا أن هذا الوضع كسره مصطفى الكرد بعد حرب الأيام الستة عام 1967 كأول موسيقي يتحدى الأوامر العسكرية، من خلال تقديمه لعروض موسيقية واحتجاجية سياسية.
يقول بولص إن الكرد أحيا أول حفل موسيقي له في تشرين الأول عام 1967 في دار الطفل، وتألفت أغانيه من مجموعات شعرية محلية، وكان الكرد قد وضع موسيقاه بين النشيد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ونمط الطقطوقة، كما قدم في العام 1973 أكثر أغانيه التي لا تنسى "الجلاد، والسكة، والأمل، والبحارة".
وبحسب بولص لحن الكرد أغانٍ باللهجة العامية المقدسية وكذلك بالفصحى، وفي ألبوم "أرض وطني" عام 1976 رافقه الشقيقان إيميل وسمير عشراوي على الجيتار والتناغم الصوتي، إلا أنه في تلك الفترة قامت حكومة الاحتلال بترحيله وأمضى السنوات التسعة التالية في المنفى.
واستكمالا للرحلة الموسيقية التي بدأها الكرد رفقة الأخوين عشراوي، أسس الأخيران فرقة البراعم في ستينيات القرن الماضي، وفي بدايتها كانت الفرقة تؤدي الأغاني الأجنبية في الحفلات والمناسبات، لكن في بداية السبعينيات بدأت بإعادة توزيع بعض أغاني فيروز وذلك من أجل تقديم أغان باللغة العربية. وسرعان ما بدأت هذه الفرقة بتنفيذ أغان خاصة بها باللهجة المقدسية والفصحى، وتطرقت إلى مواضيع سياسية واجتماعية وفكرية، وكذلك تناولت مفاهيم مقاومة، جرى تقديمها في القدس وبيت لحم.
وبحسب الباحث بولص، انضم المقدسي جورج قرمز في منتصف السبعينيات إلى الفرقة، وغنى عن التجربة الفلسطينية والحياة تحت الاحتلال، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة، وبين عامي 1977-1984 سجل عدة ألبومات منها "أنا اسمي شعب فلسطين"، و"طريق الأرض"، وأصبحت أغانيه تحظى بشعبية كبيرة بين الجمهور الفلسطيني في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم العربي.
ويرى بولص أن الكرد والبراعم وقرمز لعبوا دورا أساسيا في تطوير أنواع جديدة من الأغاني الفلسطينية الاحتجاجية في السنوات التي أعقبت حرب الأيام الستة جمعت الشعر واللهجة الفلسطينية المحلية وظاهرة المغني الثائر الذي يرافقه العود، ناهبك بموضوعات هذه الأغاني.
ومن أهم معالم هذه الحقبة أن صناعة الأغنية الفلسطينية في إطار الضفة الغربية وخاصة في منطقة الوسط كانت تستقل تدريجيا عن الفضاء المعروف في المنطقة العربية، ولكن ليس عن بقية العالم. وكانت أيضا معزولة عن وسائل البث الإذاعي والتلفزيوني العربية التي لم تبث الأغاني السياسية والاحتجاجية والناقدة والاجتماعية والفكرية أو حتى الفلسفية، لكن لم تكن هذه الفرق معزولة عن الناس، وفقا لعيسى بولص.
فرق موسيقية
استعرض بولص في بحثه مجموعة من الفرق الموسيقية التي أثّرت في المشهد الموسيقي الفلسطيني، معرجاً على تأسيس فرقة العاشقين في سوريا عام 1976، وهي التي أدت أغانٍ شعبية معدلة وموسعة، وسخرت النماذج الشعرية التقليدية وحررتها، كما استخدمت كتابة الأشعار الوطنية المعاصرة بالعامية أو الفصحى.
وكانت الفرقة بقيادة حسين نازك الذي عمل كمؤلف رئيسي ومجمع للمأثور ومدير فني لها حتى عام 1985، وبإشرافه أنتجت الفرقة بعضاً من أشهر أغانيها.
كما تطرق بولص إلى تأسيس فرقة صابرين عام 1980 على يد مجموعة من الموسيقيين الشباب في القدس، وكان سعيد مراد من ملحنيها. وأصدرت الفرقة التي استخدمت الآلات الغربية الإلكترونية الشائعة في تلك الحقبة ألبومها الأول عام 1982. كما قامت بتلحين قصائد معروفة لمحمود درويش وإبراهيم طوقان. وعندما انضمت المغنية وعازفة القانون كاميليا جبران إلى الفرقة عام 1982، انتقلت صابرين تدريجياً إلى تبني آلات موسيقية غير تلك الإلكترونية مضيفة آلات تقليدية. وقام سعيد باختيار كلمات معروفة لمحمود درويش وسميح القاسم، إلا أنه استخدم أيضا كلمات باللهجة الفلسطينية كتبها حسين البرغوثي.
ومع إصدار الألبوم الثاني، على حد قول بولص، برزت صابرين كأكثر الفرق الموسيقية الفلسطينية تأثيراً. وفي ذلك الوقت تراجعت الخصائص الذكورية والعسكرية التي سادت الموسيقى الفلسطينية ممثلة بفرقة أغاني العاشقين وكذلك الفرق الشعبية المنشأة حديثاً. وبدأت الفرق الجديدة مرحلة استكشاف مواضيع وروايات أكثر تأملا. وفي المحصلة، طورت هذه الفرق عددا من المتابعين بين جماهير الضفة الغربية وأراضي 1948 وأصدرت عدة ألبومات.
ويضيف بولص: فيما يتعلق بالشعراء وكتاب الأغاني، فقد تبنوا أنماط كتابة رمزية مع استخدام اللهجات العامية وبعض أدوات الزجل المحلية. كما كانت لهم نقاشات وتوجهات في الصناعة الموسيقية، أهم ما يميزها أن الموسيقيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومن ضمنها القدس، ابتكروا طرقاً مختلفة للتفكير في الأغنية الفلسطينية، وكانت بعيدة إلى حد كبير عن فكر موسيقيي عصر النهضة، وعن منظومة الصناعة الموسيقية الشبابية والتجارية التي كانت شائعة في ذلك الوقت في المحيط الآني، لكن ذلك لم يكن بعيداً عما كان يجري في العالم في ذلك الوقت.
فرقة صابرين
كما أن معظم الشعراء كانوا يكتبون وفي ذهنهم فنية التقييم من ناحية، وحالة المعنى من ناحية أخرى، وخطورة الخطاب المباشر المحرض. ومن جهتهم، كان الموسيقيون يلحنون وفي ذهنهم أيضاً فنية التعبير وحالة المعنى، والتفاوض مع ما هو حقيقي وفعّال بغض النظر عن شرقيّته أو غربيّته.
وخلص الباحث بولص إلى أن الأغنية الفلسطينية، في السنوات التي سبقت الانتفاضة، صنفت إلى ثلاث فئات، هي: الأغاني الشعبية الموسعة، الأغاني ذات الطابع العسكري والوطني، أغاني الفن المعاصر. ويمكن ربط هذه الفئات بشكل فضفاض في ثلاث أيديولوجيات مهيمنة هي: الوطنية العلمانية، الماركسية الاشتراكية، والإسلامية.
الانتفاضة الأولى: الأغاني كطريقة للكفاح
وفي حقبة ثمانينات القرن الفائت حدث تطور ثقافي وسياسي جديد حث على استخدام وتكريس الفنون التقليدية، والمأثور كأساس للإنتاج الموسيقي في هذه المرحلة، وخاصة في سياق الفرق الاستعراضية، أي تلك التي تستخدم المسرح، والرقص أو الدبكة في عروضها.
ومع اندلاع المظاهرات العامة في ديسمبر عام 1987، بدأت هذه الفرق باستغلال فرصة المد الوطني والشعبي لتجذير هذا التوجه في الصناعة الموسيقية، وشهدت هذه الفترة ارتفاعا في الأغاني ذات الطابع العسكري والوطني والاحتجاجي والإسلامي، واستمر النظر إلى الحفاظ على الأغاني الشعبية الفلسطينية التقليدية وأدائها كطريقة للكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي أدركه القادة السياسيون، وعملوا على دعم هذه الأغاني وتوزيعها عبر أشرطة الكاسيت.
وأشار عيسى بولص إلى أن الأغاني المسجلة على هذه الكاسيتات تضمنت ألحانا شعبية موسعة بنصوص شعرية معدلة أو مؤلفة حديثا، وتغنى باللهجة الفلسطينية، -فلاحية في الغالب- وتستند إلى هتافات احتجاجية يسهل تذكرها أو تصنع في المظاهرات، معتبرا أنه وبالاعتماد على هذه المواد أنشأ الموسيقيون، إطارا سياسيا جديدا لتخيل الأمة، وهو إطار سعى للحفاظ على التراث الفلسطيني وإلى حد ما تقديسه كوسيلة لتعزيز الانتماء والمشاعر الوطنية في حركة المقاومة.
وخلص الباحث بولص إلى أن الأغاني الوطنية المعاصرة سعت إلى التوازن بين المميزات الفنية وضرورة الإنتاج التي أصبحت محصورة بجماهير النخبة المثقفة وطلبة الجامعات. على أن مثل هذه الأغاني أخذت تتراجع تدريجيا، وانخفض الاهتمام بأدوات التعبير الفنية مع استمرار بعض الفرق والملحنين العمل في هذه الحقبة.
اتفاقيات أوسلو
مع توقيع اتفاقيات أوسلو دخلت الأغنية الفلسطينية مرحلة جديدة، فباتت تحاكي اقتصاد السوق، وذلك بعد أن حدث تحول اجتماعي وثقافي نتج عنه تيارين رئيسيين، الأول حاول الاعتماد على مفاهيم السوق في الإنتاج الثقافي، والآخر حاول الاستمرار باستقلالية الصناعة الموسيقية الفلسطينية عن قوانين السوق. وباتت الصناعة الموسيقية عالقة بين هذين الاتجاهين، وباتت كافة الأطراف تعتمد على الممولين، بحسب بولص.
وفي غضون بضع سنوات استبدلت حالة المعنى والاستقلالية التي ميزت الصناعة الفلسطينية في حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وصولاً إلى أوسلو بمرحلة جديدة حاكت اقتصاد السوق مع الإبقاء على بعض العناصر والأدوات التي تعبر عن المقاومة والاحتجاج.
وتطرق بولص إلى كاتبة الأغاني والموزعة والمغنية ريم البنا، التي ذاع صيتها في حقبة ما بعد أوسلو. فقد كانت أغانيها متجذرة في أنواع موسيقى البوب الغربية، وتعكس الاتجاهات الموسيقية المعاصرة، فوصف نتاجها بموسيقى البوب الغربية المغناة باللغة العربية والمعتمدة على موازين شعرية معاصرة حيناً وتقليدية حيناً آخر.
الانتفاضة الثانية
في هذه الحقبة، يُظهر بولص أن الفلسطينيين سعوا داخل الضفة الغربية وخارجها وفي قطاع غزة إلى إحياء ثقافة المقاومة التي كانت شائعة في حقبة الانتفاضة الأولى، واستدعوا مفاهيم إنتاجية للانتفاضة الأولى، فبات هناك جيل جديد من الأغاني الاحتجاجية ذات الطابع الديني، ولكنها قوالب وألحان شائعة في سياقات إسلامية إقليمية ليست محلية في الغالب، كما ظهرت أيضا موجة جديدة من الموسيقى الفنية الآلية والغنائية.
ولاحقا ألهم الانتشار العالي للهيب هوب والراب وموسيقى الروك البديلة وموسيقى التكنو الكثير من الأشخاص لاستخدام هذه المنظومة في التعبير عن أنفسهم.
ويرى بولص أن الانتفاضة الأولى شهدت تحركا موسيقيا نحو الداخل الفلسطيني أي نحو التراث أو المأثور، في حين أن الانتفاضة الثانية كانت تتطلع للتوسع إلى الخارج أي إلى أنواع إسلامية وعربية وغربية متنوعة سواء من المحيط الآني أو أبعد من ذلك.
أما فيما يتعلق بالجيل الحالي، فاعتبر أن الموسيقي الفلسطيني بدأ بالاعتماد على طرق تعبيرية أخرى، يسهل الوصول إليها ومتاحة له كفنون الهيب هوب والراب وكذلك أنواع الأغنيات المتواجدة في المنطقة ومن ضمنها الغناء في لهجات غير فلسطينية، كاللبنانية والمصرية.
وعلى المستوى الرسمي، كان التفضيل للتراث الشعبي باعتبار أنه يحمل رموزاً وطنية مطلقة للثقافة الفلسطينية المعاصرة. وَنَبَذَت المؤسسات التي تعنى بالإنتاج، في أحيان كثيرة، العاملين في القطاع الموسيقي وفي التربية إذا ما اقترنت أعمالهم وأنشطتهم بفرق الأعراس والحفلات.
وفيما يتعلق بمسار الموسيقى الفلسطينية الحالي، يوضح بولص، أنه لا يوجد مسار واحد للموسيقى الفلسطينية، وبدلا من ذلك نجد مجالاً واسعاً من الفكر والسلوك الموسيقيين لا يمكن تحليله بواسطة التحليل الموسيقي وحده.
العوالم الفلسطينية وانعكاسها على الأغاني
يرى بولص أن الأغاني الشعبية والدينية والهيب هوب والراب تعكس الصناعة الموسيقية الفلسطينية والعوالم التي يعيش فيها الفلسطينيون، ومنها ما قد يعتبر منخرطا في التجارة والدعاية والمسارات الكولونيالية، ومنها ما زال يَستنبط ويَستلهم من المواد الخام المحلية طرقا جديدة في التعبير.
ويختم عيسى بولص بالقول: "إن كل هذه البنود قد تُفسّر على أنها أعمال هدفها الأساسي الاستبانة الثقافية والبقاء ضمن نظام استعماري استيطاني مؤسس على محو أي أثر للسكان الأصليين، إلا أنه في جوهره فعل مقاومة سياسية وثقافية واجتماعية. وأفعال المقاومة قد لا تعبر عن المرجعيات التاريخية، وقد لا تحول الحاضر بالضرورة بشكل فردي أو ناضج، كما أنها قد لا تصل بنا إلى طريق ثقافي آمن في المستقبل".
المصدر: جريدة الحدث
مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.
https://www.arabmusicacademy.orgآب 31, 2023
آب 31, 2023
آب 31, 2023
Total Votes: | |
First Vote: | |
Last Vote: |
آب 31, 2023 Rate: 5.00
آب 31, 2023 Rate: 5.00
آب 31, 2023 Rate: 5.00
كانون2 03, 2021 Rate: 5.00
كانون2 28, 2021 Rate: 5.00
أيار 02, 2021 Rate: 5.00
أيار 07, 2013 Rate: 1.00
أيار 02, 2015 Rate: 1.50
حزيران 30, 2012 Rate: 5.00